تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 354 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 354

354 : تفسير الصفحة رقم 354 من القرآن الكريم

** وَأَنْكِحُواْ الأيَامَىَ مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَلْيَسْتَعْفِفِ الّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتّىَ يُغْنِيَهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَالّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مّن مّالِ اللّهِ الّذِيَ آتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنّ فِإِنّ اللّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنّ غَفُورٌ رّحِيمٌ * وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مّبَيّنَاتٍ وَمَثَلاً مّنَ الّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لّلْمُتّقِينَ
اشتملت هذه الاَيات الكريمات المبينة على جمل من الأحكام المحكمة والأوامر المبرمة, فقوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم} إلى آخره, هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه. واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام «يا معشر الشباب, من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء», أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود, وقد جاء في السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تزوجوا الولود تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة». وفي رواية: «حتى بالسقط», الأيامى جمع أيم, ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له, سواء كان قد تزوج ثم فارق أول لم يتزوج واحد منهما, حكاه الجوهري عن أهل اللغة, يقال رجل أيم وامرأة أيم.
وقوله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} الاية, قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى, فقال {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمود بن خالد الأزرق, حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد ـ يعني ابن عبد العزيز ـ قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} وعن ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح. يقول الله تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله} رواه ابن جرير, وذكر البغوي عن عمر بنحوه, وعن الليث عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء, والغازي في سبيل الله» رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه. وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره, ولم يقدر على خاتم من حديد, ومع هذا فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله, وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث «تزوجوا فقراء يغنكم الله» فلا أصل له ولم أره بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الاَن, وفي القرآن غنية عنه, وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها, وللهالحمد والمنة.
وقوله تعالى: {وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله} هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» الحديث, وهذه الاَية مطلقة, والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات ـ إلى قوله ـ وأن تصبروا خير لكم} أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم, لأن الولد يجيء رقيقاً {والله غفور رحيم} قال عكرمة في قوله {وليستعفف الذين لا يجدون نكاح} قال: هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي, فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها, وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السموات والأرض حتى يغنيه الله.
وقوله تعالى: {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خير} هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه, وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب, لا أمر تحتم وإيجاب, بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة, إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه قال الثوري عن جابر عن الشعبي: إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه. وكذا قال ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح: إن يشأ يكاتبه وإن يشأ لم يكاتبه. وكذا قال مقاتل بن حيان والحسن البصري, وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب أخذاً بظاهر هذا الأمر.
وقال البخاري: وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه, قال: ما أراه إلا واجباً. وقال عمرو بن دينار: قلت لعطاء: أتأثره عن أحد ؟ قال: لا, ثم أخبرني أن موسى بن أنس أخبره أن سيرين سأل أنساً المكاتبة, وكان كثير المال فأبى, فانطلق إلى عمر رضي الله عنه, فقال: كاتبه, فأبى فضربه بالدرة, ويتلو عمر رضي الله عنه {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خير} فكاتبه هكذا ذكره البخاري تعليقاً, ورواه عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه ؟ قال: ما أراه إلا واجباً. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار, حدثنا محمد بن بكر, حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك: أن سيرين أراد أن يكاتبه, فتلكأ عليه فقال له عمر: لتكاتبنه, إسناد صحيح. وقال سعيد بن منصور: حدثنا هشيم بن جويبر عن الضحاك قال: هي عزمة, وهذا القول القديم من قولي الشافعي, وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام «لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب من نفسه». وقال ابن وهب: قال مالك: الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذاسأله ذلك, ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده. قال مالك: وإنما ذلك أمر من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب. وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم, واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الاَية.
وقوله تعالى: {إن علمتم فيهم خير} قال بعضهم: أمانة, وقال بعضهم: صدقاً, وقال بعضهم: مالاً, وقال بعضهم: حيلة وكسباً. وروى أبو داود في المراسيل, عن يحى بن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خير} قال «إن علمتم فيهم حرفة, ولا ترسلوهم كلا على الناس», وقوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} اختلف المفسرون فيه, فقال بعضهم: معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها, ثم قال بعضهم: مقدار الربع, وقيل الثلث, وقيل النصف, وقيل جزء من الكتابة من غير حد.
وقال آخرون: بل المراد من قوله {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة, وهذا قول الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان, واختاره ابن جرير, وقال إبراهيم النخعي في قوله {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال: حث الناس عليه مولاه وغيره, وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي وقتادة, وقال ابن عباس: أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب. وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «ثلاثة حق على الله عونهم» فذكر منهم المكاتب يريد الأداء, والقول الأول أشهر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل, حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر: أنه كاتب عبداً له يكنى أبا أمية, فجاء بنجمه حين حل فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك, فقال: يا أمير المؤمنين, لو تركته حتى يكون من آخر نجم ؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك, ثم قرأ {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال عكرمة: فكان أول نجم أدي في الإسلام.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أول نجومه مخافة أن يعجز فترجع إليه صدقته, ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب, وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الاَية {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} قال: يعني ضعوا عنهم في مكاتبتهم, وكذا قال مجاهد وعطاء والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي, وقال محمد بن سيرين في قوله: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته, وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الفضل بن شاذان المقرى, أخبرنا إبراهيم بن موسى, أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج, أخبرني عطاء بن السائب: أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ربع الكتابة» وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله.
وقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} الاَية, كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني, وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت, فلماء جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك, وكان سبب نزول هذه الاَية الكريمة, فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول, فإنه كان له إماء, فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن, ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم.

ذكر الاَثار الواردة في ذلك
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبدالخالق البزار رحمه الله في مسنده: حدثنا أحمد بن داود الواسطي, حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج, حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال: كانت جارية لعبد الله بن أبيّ ابن سلول, يقال لها معاذة يكرهها على الزنا, فلما جاء الإسلام نزلت {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} الاَية, وقال الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الاَية, قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبيّ ابن سلول يقال لها مسيكة, كان يكرهها على الفجور, وكانت لا بأس بها فتأبى, فأنزل الله هذه الاَية {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ـ إلى قوله ـ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر نحوه.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن علي, حدثنا علي بن سعيد, حدثنا الأعمش, حدثني أبو سفيان عن جابر قال: كان لعبد الله بن أبيّ ابن سلول, جارية يقال لها مسيكة, وكان يكرهها على البغاء, فأنزل الله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ـ إلى قوله ـ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} صرح الأعمش بالسماع من أبي سفيان بن طلحة بن نافع, فدل على بطلان قول من قال: لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار. وقال أبو داود الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت أولاداً من الزنا, فقال لها مالك: لتزنين, قالت: والله لا أزني, فضربها فأنزل الله عز وجل {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء}.
وروى البزار أيضا: حدثنا أحمد بن داود الوسطي, حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج, حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال:كانت جارية لعبدالله بن أُبي, يقال لها معاذ , يكرهها على الزنا, فلما جاء الاسلام نزلت {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاى إن أردن تحصناًـ إلى قوله ـ و من يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبيّ أسيراً, وكانت لعبد الله بن أبيّ جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة وكانت تمتنع منه لإسلامها, وكان عبد الله بن أبيّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده, فقال تبارك وتعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصن}.
وقال السدي: أنزلت هذه الاَية الكريمة في عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له. فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا, وقال مقاتل بن حيان: بلغني ـ والله أعلم ـ أن هذه الاَية نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار, وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبيّ وكانت معاذة وأروى بتلك المنزلة, فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له, فأنزل الله في ذلك {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء} يعني الزنا.
وقوله تعالى: {إن أردن تحصن} هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له, وقوله تعالى: {لتبتغوا عرض الحياة الدني} أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي وحلوان الكاهن, وفي رواية «مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث, وثمن الكلب خبيث» وقوله تعالى: {ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر. وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم, وإثمهن على من أكرههن وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني والأعمش وقتادة.
وقال أبو عبيد: حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذ الاَية {فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} قال لهن والله لهن والله. وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه. وعن زيد بن أسلم قال غفور رحيم للمكرهات, حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة, حدثنا يحيى بن عبد الله, حدثني ابن لهيعة, حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود{فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم} لهن وإثمهن على من أكرههن, وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى: {ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات} يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات {ومثلاً من الذين خلوا من قبلكم} أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى {فجعلناهم سلفاً ومثلاً للاَخرين وموعظة} أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم {للمتقين} أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن: فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل, من تركه من جبار قصمه الله, ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.

** اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزّجَاجَةُ كَأَنّهَا كَوْكَبٌ دُرّيّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاّ شَرْقِيّةٍ وَلاَ غَرْبِيّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيَءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىَ نُورٍ يَهْدِي اللّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس {الله نور السموات والأرض} يقول هادي أهل السموات والأرض. قال ابن جريج: قال مجاهد وابن عباس في قوله {الله نور السموات والأرض} يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما. وقال ابن جرير: حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي, حدثنا وهب بن راشد عن فرقد عن أنس بن مالك قال: إن الله يقول نوري هداي واختار هذا القول ابن جرير. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض مثل نوره} قال هو المؤمن الذي جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال {الله نور السموات والأرض} فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فقال: مثل نور من آمن به, قال: فكان أبيّ بن كعب يقرؤها {مثل نور من آمن به} فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره, وهكذا قال سعيد بن جبير وقيس بن سعد عن ابن عباس أنه قرأها كذلك {مثل نور من آمن بالله} وقرأ بعضهم {الله نور السموات والأرض} وعن الضحاك {الله نوّر السموات والأرض}.
وقال السدي في قوله {الله نور السموات والأرض} فبنوره أضاءت السموات والأرض. وفي الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والاَخرة أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك, لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله» وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: اللهم لك الحمد, أنت قيّم السموات والأرض أنت نور السموات والأرض ومن فيهن, ولك الحمد ومن فيهن» الحديث, وعن ابن مسعود قال: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه. وقوله تعالى: {مثل نوره} في هذا الضمير قولان (أحدهما) أنه عائد إلى الله عز وجل أي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس {كمشكاة} (والثاني) أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة, فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى: {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف, فقوله {كمشكاة} قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد: هو موضع الفتيلة من القنديل هذا هو المشهور ولهذا قال بعده {فيها مصباح} وهو الزبالة التي تضيء. وقال العوفي عن ابن عباس قوله {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح} وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم: كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل (ذلك) لنوره فقال {الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة} والمشكاة كوة في البيت, قال وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى الله طاعته نوراً ثم سماها أنواعاً شتى, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هن الكوة بلغة الحبشة وزاد بعضهم فقال: المشكاة الكوة التي لا منفذ لها, وعن مجاهد المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل, والقول الأول أولى وهو أن المشكاة هو موضع الفتيلة من القنديل ولهذا قال {فيها مصباح} وهو النور الذي في الذُبالة, قال أبيّ بن كعب: المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره, وقال السدي: هو السراج {المصباح في زجاجة} أي هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية, وقال أبيّ بن كعب وغير واحد: وهي نظير قلب المؤمن {الزجاجة كأنها كوكب دري} قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة من الدر أي كأنها كوكب من درّ, وقرأ آخرون دريء ودريء بكسر الدال وضمها مع الهمزة من الدرء وهو الدفع, وذلك أن النجم إذا رمي به يكون أشد استنارة من سائر الأحوال, والعرب تسمي مالا يعرف من الكواكب دراري, قال أبيّ بن كعب: كوكب مضيء, وقال قتادة: مضيء مبين ضخم {يوقد من شجرة مباركة} أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة {زيتونة} بدل أو عطف بيان {لا شرقية ولا غربية} أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ولا في غربيها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب بل هي في مكان وسط تقرعه الشمس من أول النهار إلى آخره فيجيء زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً.
وروى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد, أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ولا يواريها شيء وهو أجود لزيتها. وقال يحيى بن سعيد القطان عن عمران بن حدير عن عكرمة في قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: هي بصحراء وذلك أصفى لزيتها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أبو نعيم, حدثنا عمرو بن فروخ عن حبيب بن الزبير عن عكرمة وسأله رجل عن قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: تلك بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها فإذا غربت غربت عليها, فذلك أصفى ما يكون من الزيت. وقال مجاهد في قوله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا طلعت ولكنها شرقية وغربية تصيبها إذا طلعت وإذا غربت.
وعن سعيد بن جبير في قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء} قال هو أجود الزيت, قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس, فالشمس تصيبها بالغداة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية. وقال السدي قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية} يقول ليست بشرقية يحوزها المشرق ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ولكنها على رأس جبل أو في صحراء تصيبها الشمس النهار كله. وقيل المراد بقوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} أنها في وسط الشجر ليست بادية للمشرق ولا للمغرب.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب في قول الله تعالى: {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال هي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها فيثبته الله فيها فهو بين أربع خلال, إن قال صدق, وإن حكم عدل, وإن ابتلي صبر, وإن أعطي شكر, فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات, قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في قوله {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال هي وسط الشجر لا تصيبها شرقاً ولا غرباً, وقال عطية العوفي {لا شرقية ولا غربية} قال هي شجرة في موضع من الشجر يرى ظل ثمرها في ورقها, وهذه من الشجر لا تطلع عليها الشمس ولا تغرب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار, حدثنا عبد الرحمن الدشتكي, حدثنا عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لا شرقية ولا غربية} ليست شرقية ليس فيها غرب, ولا غربية ليس فيها شرق, ولكنها شرقية غربية, وقال محمد بن كعب القرظي {لا شرقية ولا غربية} قال هي القبلية, وقال زيد بن أسلم {لا شرقية ولا غربية} قال الشام, وقال الحسن البصري لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية, ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره, وقال الضحاك {توقد من شجرة مباركة} قال رجل صالح {زيتونة لا شرقية ولا غربية} قال: لا يهودي ولا نصراني, وأولى هذه الأقوال القول الأول, وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس تفرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف كما قال غير واحد ممن تقدم, ولهذا قال تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني لضوء إشراق الزيت.
وقوله تعالى: {نور على نور} قال العوفي عن ابن عباس يعني بذلك إيمان العبد وعمله, وقال مجاهد والسدي: يعني نور النار ونور الزيت, وقال أبيّ بن كعب {نور على نور} فهو يتقلب في خمسة من النور: فكلامه نور, وعمله نور, ومدخله نور, ومخرجه نور, ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة. وقال شمر بن عطية: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال: حدثني عن قول الله تعالى: {يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار} قال: يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي, كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء. وقال السدي في قوله تعالى {نور على نور} قال: نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن ونور الإيمانحين اجتمعا, فلا يكون واحد منهما إلا بصاحبه.
وقوله تعالى: {يهدي الله لنوره من يشاء} أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره, كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري, حدثنا الأوزاعي, حدثني ربيعة بن زيد عن عبد الله الديلمي عن عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ, فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل فلذلك أقول: جف القلم على علم الله عز وجل».
(طريق أخرى عنه) قال البزار: حدثنا أيوب عن سويد عن يحيى بن أبي عمرو السيباني, عن أبيه, عن عبد الله بن عمرو, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نوراً من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل» ورواه البزار عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر بلفظه وحروفه. وقوله تعالى: {ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} لما ذكر تعالى هذا مثلاً لنور هداه في قلب المؤمن ختم الاَية بقوله {ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم} أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر, حدثنا أبو معاوية حدثنا شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة, عن أبي البحتري, عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر, وقلب أغلف مربوط على غلافه, وقلب منكوس, وقلب مصفح. فأما القلب الأجرد: فقلب المؤمن سراجه فيه نوره, وأما القلب الأغلف فقلب الكافر, وأما القلب المنكوس فقلب المنافق, عرف ثم أنكر, وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق, ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب,ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح, فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه» إسناده جيد ولم يخرجوه.